باحثة في الانتروبولوجية
يقف الإنسان أمام مجريات الوجود، بقلبٍ مُنفتحٍ وفكرٍ متوقِّدٍ، يُطِلُّ إلى المَشهد الكَوني ببصيرتِه، فيرى أنَّ الوجُود مصطَبغ بصبغة رياضيَّة مُعقدَّة فَرضَت نوعًا جديدًا، من العلاقات الأنتروبولوجيِّة والأنطولوجيِّة، فتنكشف له مفاهيم جديدة عن طَبيعة العَلاقات بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والله، بين الإنسان و الوجود، كمَا يتولَّد لديه مفهوم جديد عن الزمان، وينجلي له ترتيب مغاير للمكان، يتبلور في الأنماط السلوكية عند بني البشر……
وقد تنوعت تعريفات “الثقافة” ومدلولاتها، بعدد الفلاسفة والمفكرين، ولست منهم، غير أني أرى أن الثقافة هي “نمط تجلِّي” وجودِي mode de manifestation de l etre و ليست خلقًا وصنعًا ، فهي انكشاف أشكال الحقيقة وكيفية من الكيفيات التي يُكتنز فيها الوجود، ليظهرَ كمستودعٍ للطَّاقة الفاعلة، فهي موقف “أنطولوجي” ، يمسّ هويَّة الكائن وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالواجد، وعلاقته بالكائنات الأخرى ، بحيث يمتد الموجود في غياب الاختلاف فيصبح الانسان ذاته مستودع للطاقة الوجودية . وان كنا نعتقد ان الله خالق الوجود ، فإن الانسان هو مستودع التجليات الالهية الوجودية، التي لا يمكن حدّها ولا حصرها، وعليه فإن الهوية الكونية للانسان ، تتنوع بتنوع الكائنات ، وتختلف باختلاف الافراد، وتتلون بعدد اللحظات ، إنها تجلِّيات بعدد ذرات الوجودعلى مرّ اللحظات … إذن فمفهوم التنوع هو لحظة بناء حاسمة في تلك الهوية، لذلك نرى ان الانسان الكوني يلتقي مع اخيه الانسان الكوني عبر العصور ، فتلتقي أطروحات ابن عربي الاندلسي في العصر الوسيط مع أوشو الأرمني في القرن العشرين… على سبيل المثال .
فما اختلاف اللون ولا العرق ولا الجغرافية إلا تجلي إلهي، و انكشاف وجودي للحضرة الكونية، وآية من آيات المكوّن، التي يعشقها الكائن الكوني لأنها صورة من يعشق ومن يُحبّ. فمن ينتمي لهذه الحضرة ، يرى بالعلاقات البشريَّة سلسلةً لا متناهية من التنوُّع، التي تنعكس فيه هذه التجليات الوجودية بإيقاعها المتسارع،فيتغيّر عنده مفهوم الزمان، فالحاضر لا يعني بالنسبة له اللحظة الآنية التي تمرُّ حَاليًّا، بل هو سَيرورة مُستمرَّة تَبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي. هذه الرؤية الوجوديَّة الكونيَّة لمفهُوم الزمان، تُحرر الإنسان من الوصَايَةِ الحصريَّة على شُؤون الحقيقة، كما تُؤدي الى الانفكاكِ من المُتعلقات المبنية على مفهوم الماضِي والحاضِر….وينبني عليها فلسفة مغايرة للتنوع والاختلاف والتطوّر، وصورة جديدة ومتجددة على الدوام للانماط العلائقية، فيقبل هذا الكائن تلّون الصور، وتجليات الحقائق بكافة أنواعها. فالاختلاف والتنوع عندها يصبح مفهوما “انطولوجيا” وليس مجرد مفهوم “أنتروبولوجي ” . وآلية اي “عمل” le faire ليست تطبيق لقواعد، بل حلول لممارسات جديدةٍ و متغيرةٍ ، فهي المعرفة (العرفان)، الذي بفضله نفهم الوجود بطبيعة رياضية .
وإذا كانت إنتاجية أي عمل، تُظهر أنَّ هناك تراتبًا بين الكائنات، إلا أن هذه الرؤية، تجد أن هدف الانتاج ليس إلا الفراغ الموحِّد، وما يتولد عن الانتاجية عندها هو غياب الاختلاف . يقودني هذا الطرح الفلسفي لمسألة الثقافة، إلى معاودة النظر في “الازواج المتافيزيقية ” مثل : الخير و الشر، الحب والكراهية،الطاعة والمعصية، والنظرية عن الممارسة ….. فكلها مفاهيم متغيرة لا يمكن تحديدها بقوالب، ولا يمكن لكائن ان يدعي لنفسه حصر الحقيقة ويمنح نفسه حق إطلاق الأحكام القيميّة ..
لذلك فإن الذي يحلل مفهوم “العبودية ” عند بعض فلاسفة المتصوفة ، يجد أنها ترتبط بمفهوم التخلي عن “اطلاق الاحكام ” لانها من صفات “المُكوّن” , و”العبودية” بمفهومها الفلسفي البعيد هي “التحرر من الايديولوجيات” والعلب الفكرية” ونقد العقائد والتخلّي عما هو من أفعال الخالق في “حضرة التكوين “. وينبني على هذه الرؤية الكونية مفهوم مختلف لعَملية البَحث في التُراث الإنساني، لأنها مرتبطة بمُتابعة الكيفية وآليات العمل والإنتاج ، وتتجاوز معرفة الأحداثِ و وصفِها والإطلاع على المقاصد والحقائق باسمِ الغائب ….
فعملية البحث هنا تكون، آلية تفكيك خطاب التراث الحضاري للبشرية، وما سبقه وما لحقه وإعادة إنتاجه بشكلٍ مُبتكَر، فهي استراتيجية نقدية مبدعة….. ذلك أن الفصل الكرونولوجي بين أنماط الزمان يضع المخزون التراثي مع بني البشر في حالة قطيعة، تؤدي إلى عزل الماضي عن الحاضر، وعزل الحاضر الذي سيصبح ماضيًا عن المستقبل الذي سيصبح حاضرًا وهكذا الى ما لا نهاية …
هذا الفصل في المفهوم الزمني، هو الذي يطرح كل الإشكاليات الفكرية الحالية التي يطالعنا بها الكتَّاب ، تحت مسميات متنوعة منها ، “الأصالة” و”المعاصرة”، والفكر” المؤصل ” والفكر” الحديث”… و ينبني على عملية الفصل هذه سلسلة لا متناهية من التيارات الفكرية المُؤطِّرة للمجتمعات، و نمط من المنظومات العلائقية المجتمعيَّة التي تطرح الهوية الإنسانية من خلال أيديولوجيات “معلبّة” ، تفرض نوع محدد من العلاقات تُصادر الحريات، وتمنح نفسها “القداسة” و”الحق الحصري” لمعرفة الحقائق و القيمومة بأعملها . فالأطروحة الكونية ميتافيزيقية تكمن روعتها، بأنها تخرج من إطار الفصل الزمني الكرنولوجي، والفصل المكاني الجغرافي، وترتكز على فهم الثقافة بصفتها مكملة للماورائيات، وتتخذ من الكون تاريخًا لها.