عبد الرزاق الأسمر: أراد الموت في فلسطين
عبد الكافي الصمد
«كانت أمنيته أن يستشهد على أرض فلسطين». هذا ما كان يجول في خاطر الشيخ عبد الرزاق الأسمر بحسب عارفيه. ولهذه الغاية شارك في عمليات عدة ضد الإسرائيليين في الجنوب قبل انسحابهم منه عام 2000، منها عملية في سجد. لم تكتب للشيخ الأسمر الشهادة التي يتمنى، بل سقط بالرصاص وهو يحاول إطفاء نار الفتنة في محلة أبي سمراء بطرابلس مساء الجمعة الماضي، في حروب الأزقة التي كان يحذر منها دائماً. ذلك المساء وقبل الغروب بقليل، ساد توتر شديد المنطقة غداة الإعلان عن اغتيال رئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن. تجمّع أكثر من 80 مسلحاً، ممن يدورون في فلك تيار المستقبل والإسلاميين المتحالفين معه، على مسافة تبعد 500 متر من مقر الأمانة العامة لحركة التوحيد الإسلامي، استعداداً لاقتحامها، كما في كل مرة يتشنج فيها الوضع السياسي والأمني في طرابلس ولبنان. اقترب الشيخ الأسمر وحيداً من المتجمّعين، تحدث إليهم بهدوء لم يخرج عن عادته التي اشتهر بها وهو يتحدث إلى مستمعيه في خطب الجمعة وفي صفوف المدرسة التي يعطي فيها دروساً دينية. نبه المسلحين إلى ان «ما تقومون به لا يجوز. تريدون قتل من؟ ألا تعلمون أن دم المسلم على المسلم حرام؟».
لم يلق تجاوباً من الذين تحلقوا حوله، كان يتوقع ذلك في ظل الاحتقان السياسي والمذهبي الذي يعطل لغة العقل. حاول تكرار كلامه، لكن أحد المسلحين عاجله بطلق ناري في رأسه أرداه على الفور.
قبل ذلك بقليل كان التيار الكهربائي قد انقطع عن المنطقة، تأخر ايصال كهرباء المولدات الخاصة، فبقيت جثة الرجل على الأرض أكثر من 3 ساعات من غير أن تفلح محاولات العثور عليه، إلى أن وُجد في زاوية الشارع الذي وقعت فيه الجريمة.
حزن شديد خيم على عارفيه، نظراً لما يعرفون عنه من بساطة وخلق حسن، وتواضع لم ينفك يطبع ممارساته حتى اليوم الأخير من عمره الذي لم يتجاوز 40 عاماً ( مواليد 1973 وأب لسبعة أبناء). الرجل الحائز على شهادتي ماجستير في قسمي التربية وفي الدراسات الإسلامية، كان يعكف في الأشهر الأخيرة على إنجاز أطروحته في الدكتوراة.
عملياً، كان الأسمر إلى جانب عمله مدرساً للتربية الإسلامية ومفتشاً تربوياً في دار الفتوى في طرابلس وعضواً في تجمّع العلماء المسلمين، مسؤول قسم البرامج الثقافية في إذاعة التوحيد ومسؤول التثقيف الديني في الحركة. كما كان إماماً وخطيباً في مسجد العيرونية، في الضاحية الشرقية لطرابلس. وهنا برز تمسك من يعرفه به، عندما أقدمت دار الفتوى قبل سنوات على إبعاده عن مركزه. رفض أهالي المنطقة القرار وتمسكوا به خطيباً وإماماً، مع أن موقفه السياسي يتعارض مع الموقف السياسي لأغلبهم.
خطبه التي كان يهاجم بها بلا مهادنة إسرائيل، جعلت الفلسطينيين في مخيّمات الشمال يعشقون وجوده بينهم، وخطيباً في مهرجاناتهم، التي كان يشدد فيها على أنه يجب أن لا نضيع البوصلة. البوصلة هي فلسطين والقدس والمسجد الأقصى.
لم تكتب له الشهادة التي كان يتمنى، ولقي حتفه في ميدان كان يحذر منه باستمرار، لكن عزاء محبيه وعارفيه أنه لقي تشييعاً حاشداً، إذ خرج في جنازته الكبير والصغير من أهالي المنطقة، ورشق النسوة على نعشه الأرز وهو يمر تحت شرفاتهن، مع أن البعض حذر مسؤولين في الحركة من تشييعه نهاراً ونصحهم بأن يقوموا بذلك ليلاً حتى لا يحصل أمر ما، لكن مسؤولي الحركة رفضوا.
غياب دار الفتوى عن تشييعه كما يجب، مع أنه أحد أفرادها، وكذلك القوى السياسية التي لطالما كان يبدي دعمه لها وتأييدها، أوجد غصّة في قلوب الذين ساروا في جنازته. ربما هكذا يكون مصير الجنود المجهولين الذين يتبنون أي قضية، والأسمر كان أحد هؤلاء.