التّحلّي بصفة الإنصاف، وسلوك درب المنصفين يلزم
معه التّأدّب بآداب خاصّة، وقد التزم بها أهل السّنّة والجماعة، وعلى من
يسير على منهجهم أن يتأدّب بتلك الآداب، وأهمّها:
1- التّجرّد وتحرّي القصد عند الكلام على المخالفين:
وذلك أنّه قد تلتبس المقاصد عند الكلام عن
المخالفين، فهناك قصد حبّ الظّهور، وقصد التّشفّي والانتقام، وقصد
الانتصار للنّفس أو للطّائفة الّتي ينتمي إليها النّاقد .. وقد حذّر ابن
تيمية من يردّ على أهل البدع من التباس المقاصد فقال: «... وهكذا الرّدّ
على أهل البدع من الرّافضة وغيرهم، وإذا غلّظ في ذمّ بدعة أو معصية كان
قصده بيان ما فيها من إفساد ليحذر العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها. وقد
يهجر الرّجل عقوبة وتعزيرا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرّحمة
والإحسان، لا للتّشفّي والانتقام» وقد انتبه ابن القيّم- رحمه اللّه- إلى
هذا الأمر فوضع قاعدة لمن يريد أن يتجرّد من الهوى فقال: «وكلّ أهل نحلة
ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومقالة
مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ، ومن رزقه اللّه بصيرة فهو يكشف
بها حقيقة ما تحت الألفاظ من الحقّ والباطل، ولا تغترّ باللّفظ كما قيل في
هذا المعنى:
تقول هذا جنى النّحل تمدحه ... وإن تشأ قلت: ذا قيء الزّنابير
مدحا وذمّا وما جاوزت وصفهما ... والحقّ قد يعتريه سوء تعبير
2- أهمية التبين والتثبت قبل إصدار الأحكام:
وذلك امتثالا لقول اللّه تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما
فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (الحجرات/ 6)، وقوله تعالى: يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ
مُؤْمِناً (النساء/ 94).
والتّبيّن والتّثبّت من خصائص أهل الإيمان، قال
الحسن البصريّ- رحمه اللّه-: «المؤمن وقّاف حتّى يتبيّن» وقال الإمام
محمّد بن عبد الوهّاب- رحمه اللّه-:
«ومتى لم يتبيّن لكم المسألة لم يحلّ لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتّى يتبيّن لكم خطؤه، بل الواجب السّكوت والتّوقّف».
3- حمل الكلام على أحسن الوجوه، وإحسان الظن بالمسلمين:
فالواجب على المسلم أن يحسن الظّنّ بكلام أخيه المسلم، وأن يحمل العبارة المحتملة محملا حسنا.
فقد حثّ الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم على إحسان
الظّنّ بالمسلم حين قال وهو يطوف بالكعبة: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما
أعظمك وأعظم حرمتك، والّذي نفس محمّد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند اللّه
حرمة منك، ماله ودمه، وأن لا يظنّ به إلّا خيرا».
وقال سعيد بن المسيّب: كتب إليّ بعض إخواني من
أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم
يأتك ما يغلبك، ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرّا وأنت تجد لها في
الخير محملا».
4- ألّا ينشر سيّئات المخالف ويدفن حسناته:
فقد ذكّر الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم عمر بحسنات
حاطب فقال: «وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
فكون حاطب من أهل بدر ترفعه ويذكر له في مقابل خطئه الفاحش، ولذا غفر له خطؤه.
5- النقد يكون للرأي وليس لصاحب الرأي:
فالنّقد الموضوعيّ هو الّذي يتّجه إلى الموضوع ذاته
وليس إلى صاحبه. وكان الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم إذا حدث خطأ من أحد
أصحابه أو بعضهم. لا يسمّيهم غالبا وإنّما يقول: «ما بال أقوام»، «ما بال
رجال».
6- الامتناع عن المجادلة المفضية الى النزاع:
وقد حذّر الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم من الجدل المفضي إلى الخصومة فقال: «إنّ أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم».
وقال ابن عبّاس- رضي اللّه عنهما-: «لا تمار أخاك فإنّ المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته ..».
وقال مالك بن أنس: «المراء يقسّي القلوب، ويورث الضّغائن».
7- حمل كلام المخالف على ظاهره وعدم التعرض للنوايا والبواطن:
وقد علّمنا ذلك رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه
وسلّم حينما قتل أسامة بن زيد المشرك بعد أن قال: لا إله إلّا اللّه،
فلمّا علم صلّى اللّه عليه وسلّم أنكر ذلك عليه، فقال أسامة: إنّما قالها
متعوّذا. فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «هلّا شققت عن قلبه»..
نضرة النعيم (3/583)، بتصرف وإيجاز عن محمد بن صالح بن يوسف العلي (69-
101)، ط دار الأندلس الخضراء.