رحل العام ، ورحل فيه آخرون ، رحل رجل كان يبني المجد ، وآخر يبحث في هوى النفس
، وكلاهما رحل ، رحل رجل بنى بعروسه ولم يدخل بها ، وآخر بدأ في بناء بيته ولم
يسكنه ، وثالث ينتظر وظيفته أو تخرجه ، ورابع ، وخامس رحلوا وهم غارقون في
الأمنيات ، لاهون في معترك الحياة ، كانوا يأملون أن الحياة أفسخ من أحلامهم ،
وأكبر من أمنياتهم ، ونسوا أنها أضيق على قوم من ثقب أبره ، وأنها مليئة بكثير
من المفاجآت ، رحلوا ولا زالت أيديهم لم تمتلئ من الدنيا بعد . لكنهم رحلوا ،
رحل من هؤلاء من سطّر كلمته وكتب اسمه بحروف من ذهب ، وأشهد التاريخ أنه مر في
ذاكرة الأيام وهذه آثاره ، ورحل آخرون دون أن يعرفهم أحد ، ولدوا صغاراً ،
وعاشوا صغاراً ، ورحلوا حين رحلوا وهم صغاراً وثمة سؤال يبعثه الوداع : كم هم
الذين أهيل عليهم التراب من أهلينا ؟ أما سآلت الأيام كم حفظت لهم الأرض من
آثار ؟ وكم حفظت لهم المجالس من أقوال ؟ ثم ما ذا ؟ هاهم هناك في بيوت أخرى ،
معالم مختلفة ، ومآثر قديمة ، لم يبق من آثارهم إلا ذكراً فقط ، ولم تبق من
معالمهم إلا أجراًُ أو وزراً . وهكذا هي الأيام !
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان حين يرحل من الدنيا ينتقل معه
إلى قبره ثلاثة " ماله ، وولده ، وعمله ، فيرجع المال والولد ، ويبقى العمل" .
فإذا كان هذا هو حال الدنيا ، وليس للراحلين منها إلا أعمال البر ، فإن الوقت
مناسب جداً لحسابها والتفتيش عن أخطائها ، والوقوف معها وقفة معاتب صادق في
الخلاص من عذاب الله تعالى لها غداً ؟ إننا نقدم على الله تعالى في عرصات
القيامة فلا نجد عدلاً أوسع من أن نأخذ كتاباً دُوّنت فيه أعمالنا ، كتاباً حفظ
الزلات ، ورصد الخطيئات ، ودوّن صغائر الأمور قبل عظائمها ، قال الله تعالى
"ووضع الكتب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولونا يويلتنا مال هذا الكتاب لا
يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ماعملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً "
إننا نقدم على الله تعالى فإذا بنا بين طيات أعمالنا ، ولا تتصوّر حال أولئك
المذنبين حين يصوّر الله تعالى حالهم ، قال تعالى " يوم تجد كل نفس ماعملت من
خير محضراً ، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ، ويحذركم
الله نفسه " فيا لله لو رأيتهم وذل المعصية يكتنف قلوبهم ، وهول الموقف يعصف
بآمالهم !
الأعوام تتصرّم ، والأيام تتوالى ، والأقدار مجهولة ، ولا ندري متى نقدم على
الله تعالى ؟ فما أحرانا بوقفة صادقة نستجلي فيها حياتنا ، ووقفاتنا ، وأعمالنا
. وقفة نتأمّل فيها دقائق أعمالنا وصغائر أخطائنا .
لو استعرض الواحد منا حديثه ، وما يبثه لسانه ، وحاسب نفسه عليه لأدرك أن
القضية خطيرة جداً ، وأن الإنسان إن لم يتنبّه للخطر اليوم فقد يغرق غداً ، كيف
لا . والله تعالى يقول " مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد "فأي شيء تكلمت به
منذ خلقك الله تعالى إلى يوم القيامة محفوظ في صحائف الملائكة التي أخبر الله
تعالى عنها بقوله : " وإن عليكم لحفظين ، كراماً كتبين " وإذا كان اللسان يراقب
هذه المراقبة فما بالك بسائر جوارحك ؟!
إن الموقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة عظيم ، يربح فيه الرابحون المحاسبون
لأنفسهم ، ويخسر فيه المفرطون ، عرض الله تعالى صورة الرابحين يوم القيامة ،
وجزاؤهم بين يديه فقال تعالى "هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مئاب . جنّت عدن مفتحتة
لهم الأبواب . متكئين فيها يدعون فيها بفكهة كثيرة وشراب . وعندهم قصرات الطرف
أتراب . هذا ماتوعدون ليوم الحساب . إن هذا لرزقنا ماله من نفاد " وعرض حال أهل
الخسارة ومواقف الندم ، فقال تعالى " هذا وإن للطغين لشر مآب . جهنّم يصلونها
فبئس المهاد . هذا فليذوقوه حميم وغسّاق . وآخر من شكله أزواج " وصوّر الله
تعالى خسارتهم ، وأنها تظهر على وجوههم ، وتلوّث أجسادهم فقال تعالى " ويوم
القيمة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنّم مثوى للمتكبرين "
وعرض صورة من صور فوز المتقين فقال تعالى " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا
مسهم السوء ولا هم يحزنون "
إن المسؤولية عظيمة جداً ، وأيام الدنيا من حاسب نفسه فيها ، وعرف طريقه ، كان
إلى الفوز أقرب من الخسارة ، ولقي من النعيم ما ينسيه معالم الدنيا كلها . ومن
آثر هذه الحياة ، ونسي حساب الله تعالى وقع في المهالك ، وخسر خسارة المفرطين .
قال تعالى " فأما من طغى . وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى . وأما من
خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى " .
إن الموقف بين يدي الله تعالى عظيم ، ولك أن تتصوّر اليوم الواحد في عرصات
القيامة بخمسين ألف سنة قال تعالى " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة " إنه اليوم الذ تتعرّض فيه كل المعالم للخراب والدمار ،
ويبقى حسابك واقعاً حتمياً ، قال تعالى " يوم تكون السماء كالمهل . وتكون
الجبال كالعهن . ولا يسأل حميم حميماً . يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب
يًومِئذ ببنيه . وصحبته وبنيه . وفصيلته التي تؤويه . ومن في الأرض جميعاً ثم
ينجيه " . إن اليوم الذي تقف فيه بين يدي الله تعالى يصعب تصويره ، يكفيه حجماً
أن يلوذ منك والداك بالفرار ، يفر منك أقرب الناس إليك في صورة مفزعة يعرضها
القرآن كأوضح ما تكون " يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصحبته وبنيه لكل
امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " تأمّل هذه الصورة ، وأمعن النظر فيها ، تأمل أقرب
الناس إليك اليوم كيف هم أهرب الناس منك غداً؟ .
إن مواقف الحسرة للمفرطين تبدو في جوارحهم التي حرصوا على نعيمها تشهد عليهم في
مواقف الحسرات ، وتفضحهم في مواطن الهلكة والنهايات ، قال الله تعالى " ويوم
يحشر أعداء الله إلى النار فهو يوزعون . حتى إذا ماجاؤوها شهد عليهم سمعهم
وأبصرهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا
أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون "
كيف يهنأ مسلم دون أن يحاسب نفسه ؟ وهو يعلم أن مثاقيل الذرة محسوبة عليه ، إن
خيراً فخير وإن شراً فشر ، قال تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره . ومن
يعمل مثقال ذرة شراً يره "
لنحاسب أنفسنا فإنا سَنُكلّم ربنا ليس بيننا وبينه ترجمان ، قال صلى الله عليه
وسلم " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه
فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم ، وينظر بين يديه فلا
يرى إلا النار تلقاء وجهه ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة "
لنحاسب أنفسنا لأن أقدامنا لن تزول من مواقف الحساب إلا بعد سؤال دقيق عظيم ،
يقول صلى الله عليه وسلم " لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره في ما
أفناه ، وعن شبابه في ما أبلاه ، وعن علمه في ما عمل به ، وعن ماله من أين
اكتسبه وفيما أنفقه" ويقول صلى الله عليه وسلم : "والله لو تعلمون ما أعلم
لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى
الصعدات تجأرون إلى الله تعالى . وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشمس تُدنى يوم
القيامة من الخلق حتى تكون منهم بمقدار ميل ، قال سليم بن عامر الراوي عن
المقداد : فوالله ما أدري ما يعني بالميل ، أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل
به العين ، قال : فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى
كعبيه ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه ، ومنهم من يكون إلى حقويه ، ومنهم من يلجمه
العرق إلجاماً . وأشار بيده إلى فيه .
وأبان صلى الله عليه وسلم عن مواقف القيامة فقال : "يعرق الناس يوم القيامة حتى
يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم" . وبيّن أنه سمع
وجبة ـ أي صوت حجر ـ فقال : صلى الله عليه وسلم " هل تدرون ما هذا ؟ قلنا الله
ورسوله أعلم . قال : هذا حجر رمي به في النار من سبعين خريفاً ، فهو يهوي في
النار حتى انتهى إلى قعرها فسمعتم وجبته . وتحدّث عن حشر الناس فقال " يحشر
الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ، قلت : يارسول الله الرجال والنساء جميعاً
ينظر بعضهم إلى بعض ؟! قال : ياعائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك"
إن مابينننا وبين الله تعالى عظيم ، فهو يعلم سرنا وجهرنا ، ظاهرنا وباطننا،
يرانا في وضح النهار ، كما يعلم خبايانا في جنح الظلام ، ولن نغيب عن نظره ،
وملائكته يدونون علينا كل صغيرة وكبيرة . سرائرنا مكشوفة له كما هي ظواهرنا أو
أعظم لبعضنا البعض .
والله المسؤول أن يجعل عامنا الجديد عاماً مباركاً ، وأن يكتب لنا وللأمة
الإسلامية فيه من البركة والتوفيق والنصر والتمكين ما يفرح به كل مسلم على وجه
الأرض . والحمد لله رب العالمين .