العاطفة الجياشة في حنايا أب أو أم
لا تعبر عنها الكلمات مهما كانت هذه الكلمات بليغة
فالكلمة تعلن إفلاسها إذا طلب منها ترجمة حقيقية مطابقة لتلك المشاعر
الكلمة أعجز من أن تبرز حقيقة تلك العاطفة كما هي ..
ربما هي تستطيع أن تقرّبها إلينا ، لعلنا نتصورها.
أما الحقيقة كما هي فلا يعبر عنها لسان ،
ويعجز عنها القلم ..
منذ ساعات الحمل الأولى يحمل الأب ، هم هذا الجنين
الذي يتخلق بقدرة الله في بطن الأم
يحمل همه إما فرحا به ، وشوقا إليه ، وإما فرحا به ، وشفقة عليه ..
ولا يزال الهم يكبر كلما كبر الجنين ..
وبولادته تولد هموم كثيرة وجديدة في قلب الأب
لاسيما إذا كانت ماديات الحياة لا تسعفه ليسعد ولده وزوجه
فكيف إذا كان الأبناء كثر ؟
أحسب أن هموم هذا الإنسان ستعصف به ، وتنهك قواه ،
وتذهب به كل مذهب ..
ويكد الأب كده في الحياة في جهد جهيد ،
متحملا مشاق كثيرة ، ومتاعب متواصلة ،
وهموم لا تزال تتوالد مع مطلع كل صباح
وخلال ذلك
تبقى عينه على صغاره ، كعين الطائر ،لا تزال ترف على فراخها
لا تحلق قليلا إلا لتعود سريعا ..
تتفقد أمرهم وترعى شأنهم ، وتحمل هم بقائهم
ويأمل المسكين أن يمتد بهم العمر ليراهم شامة في وجه نهار الناس
ليباهي ويزهو بهم ،
ومن جهة ليستند عليهم في مهمة السعي من أجل هذه الأسرة
التي أخرجتهم رجالا يدقون الأرض في صلف
ولا تجد أباً إلا وهو يتمنى أن يكون ولده خير منه
يتمنى الأماني من أجلهم ،
.. وتعذب له أحلام اليقظة يسافر معها يرى خلالها هذا الابن أو ذاك
وقد اصبح ذا شأن ، وذا مال ، وذا وجاهة..
غير أن حقائق الحياة كثيرا ما تصطدم هؤلاء الآباء فيما يأملون
فلا تكون ثمرة سعي تلك السنوات الطوال ،
وذلك الشقاء المتواصل ، وذلك الهم المضني
إلا أن يخرج هذا الابن على غير الصورة التي كان الأب يحلم بها ،
والتي كان يمني نفسه أن يراها .
الحديث ذو شجون ..
لكني أحببت اليوم أن أجعل هذه الكلمات كمقدمة لهذه الأبيات
المصورة البديعة المؤثرة غاية التأثير لمن تأملها وعاش في جوها ،
وتفاعل مع معانيها
هذا أب يصور ما كان منه لولده ، وما قابله به ولده .
غذوتك مولوداً وعلتُـك يافعاً =تُـعـلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت =لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي =طُرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها =لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي =إليها مدى ما كنت فيك أوملل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة =كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوّتي =فعلتَ كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار فلم تكن =علىّ بمالٍ دون مالك تبخل[/poem]
مساكين هؤلاء الآباء ..
كثيرا ما يلاقون جزاء سنمار في النهاية
ذلك الذي بنى وأحسن البناء ،
وتعب وسهر وشقي وتابع وراقب وجهد كل الجهد
فملما حانت الساعة التي كان يرتقبها
ليأخذ مكافأته
كان جزاؤه …..
كان جزاؤه ..أن يرمى من فوق سطح البناء الذي شيده !
لا إله إلا الله
اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربونا صغارا
اللهم ارحمهما واغفر لهما وتجاوز عنهما
وأعنا على البر بهما أحياء وأمواتا ..
اللهم آمين