الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنه مما لا يخفى على كل مسلم عاقل وهبه الله بصيرة، ما كانت تعاني منه البشرية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ من ضلالة في المعتقد، ووحشية في المعاملات، وتردّ في السلوك.
فبعث الله - جل وعلا - رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة بشيراً ونذيراً، وليخرج الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن أخلاق الرذيلة إلى أخلاق الفضيلة؛ ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة؛ ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام. فكان خير مبلَّغ صلوات ربي وسلامه عليه، فأدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة.
وما ترك طريق خير إلا دلَّ أمته عليه، وما ترك طريق شر إلا حذّر أمته منه، وما كتم شيئاً مما أمره الله به ـ وحاشاه من ذلك ـ، فنقل الأمة من ضلال الجاهلية، وذل العبودية لغير الله، إلى نقاء العقيدة، وعزة الإسلام.
ومما بُعث به النبي - صلى الله عليه وسلم -: نشر الأخلاق الحسنة، والمعاملات الطيبة بين الناس، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[1].
فكان ما قال حقاً..
فتممّ مكارم الأخلاق، وسار الناس على النهج السديد، وتحلّوا بهذه الأخلاق، فتغيّرت أحوالهم، وعَلَت هاماتهم، وسمَت آمالهم، فأصبح الذليل عزيزاً، وأصبح المنفِّر مبشراً؛ وأصبح الفظ الغليظ ليّناً.
وربّى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه التربية التي أصبحت مضرب الأمثال، حتى أصبحوا مثلاً يُقتدى بهم.
وكان من أعظم الأخلاق التي أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحثّ عليها أمته: (الغَيْرَة)..
ذلك الخلق الذي افتقده كثير من المسلمين من حيث شعروا، ومن حيث لا يشعرون.
وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأمة على عِظَم ومنزلة هذا الخلق الفاضل، حيث قال: "إن الله - تعالى - يغار، وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرَّم الله عليه"[2].
فبيَّن أن من انتهك حرمات الله، فقد اجتاز سوراً عظيماً، وبيَّن أن ربنا - جل وعلا - يغار إذا انتهكت محارمه، وتُعدِّيَ على حدوده.
ولِما لهذا الخلق الطيب من أهمية قصوى، ولأنه من قوائم الحياة الشريفة والعيش السعيد، ولِمَا له من دور في حفظ العزَّة والشرف بين الناس، فقد زرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قلوب أصحابه، وبسبب التزامهم بهذه التربية العظيمة، ضربوا لنا أروع الأمثلة تطبيقاً لما تربّوا عليه.
فهذا سعد بن عبادة - رضي الله عنه - يقول: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح"؛ فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير من سعد، والله أغير منّي"[3].
فانظر إلى أي مدى وصل إليه أولئك النفر الطيبون، من الغيرة على الأعراض والمحارم، وانظر إلى نتائج تربية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأمّل ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، حتى يتمكن هذا الخلق من قلوبهم، ويأخذ مكانه في التطبيق.
ومن آثار هذا الخلق ـ أيضاً ـ: حديث عائشة ـ - رضي الله عنها - ـ عندما قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يُحشر الناس يوم القيامة حفاة، عراة، غرلاً"؛ قلت: النساء والرجال جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض"[4].
فهالها المنظر وشد انتباهها؛ وأخذتها (الغَيْرة) على المحارم، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعجّب وذهول: "النساء والرجال جميعاً، ينظر بعضهم إلى بعض؟! ".
فقد أخذتها الغيرة؛ ووصل الحياء منتهاه، فانتبهت لأمر لا يعدُّ شيئاً بالنسبة لهول ذلك المشهد العظيم، لكن لفرط غيرتها استحوذ الموقف على تفكيرها.
وهذا علي - رضي الله عنه - يرسل إلى إحدى المدن يخاطب أهلها، يقول: "بلغني أن نساءكم يزاحمن العُلوج ـ كفار العجم ـ في الأسواق، ألا تغارون؟!! إنه لا خير فيمن لا يغار".
وهنا السؤال: لِمَ تحركت هذه الغَيْرة في قلوبهم؟
لأنهم قد سمعوا وتعلموا، وعرفوا أهمية الأمر الذي يوصي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخذوا به، واجتهدوا في تطبيقه، وتركوا الوقوع في خلافه.
ثم بعد ذلك مضت العصور، وارتحل أولئك النفر الأطهار الأبرار، الذين رفعوا راية التوحيد خفّاقة، وأذلُُّوا الشرك وأهله، وخفضوا رايتهم.
ولكن بقيت آثارهم الطيبة محفوظة، ليتعلم منها الناس، وليهتدوا بها.
لذلك لم تختفِ تلك الأمثلة الطيبة حتى بعد رحيلهم، لأن الذين جاؤوا من بعدهم تمسّكوا بما كان عليه أولئك النفر الطيبون.
وتأمل هذا الموقف الذي يعكس لك مدى (الغَيْرة) عند من تمسك بآثار السلف، وسار على طريقهم: "حضرت امرأة عند أحد القضاة، وادّعت على زوجها أن لها عليه خمسمائة دينار مهراً، فأنكر الزوج أن يكون لها في ذمته شيء، فقال القاضي: هاتِ شهودَك ليشيرون إليها في الشهادة، فأحضرهم، فاستدعى القاضي أحدهم وقال: انظر إلى الزوجة لتشير إليها في شهادتك، فقام الشاهد وقال للزوجة: قومي، فقال الزوج: ماذا تريدون منها؟ فقيل له: لا بد أن ينظر الشاهد لوجه امرأتك لتصح معرفته بها.
فأخذت الرجل الحميّة، وحرّكته الغيرة على زوجته، وصاح أمام الناس: إني أُشْهِدُ القاضي على أن لزوجتي في ذمتي هذا المهر الذي تدعيه، ولا تُسفر عن وجهها".
- رحمهم الله -..
أين هم من أناس في هذا الزمان، انسلخوا من الحياء، وفقدوا الغيرة، فخرجت نساؤهم كاشفات الوجوه والرؤوس والأيدي والسيقان، ويزعمون أنهم أهل غيرة!.
فالله المستعان، وإليه المشتكى.
ما بين إقبال ليـل واستدارته *** تحوّل الحال واحتفت بنا النُّذر
فجاء هذا الزمان الذي ازدادت فيه غربة الدين، وضَعُفَ التمسّك بالهدي الأول، وظهر أقوام يحلفون قبل أن يُستحلفوا، ويشهدون قبل أن يُستشهدوا، ويخونون ولا يؤتمنون، ويقولون ما لا يفعلون.
فانحرفت الأمة عن الجادة، وأصبح الدين غريباً في هؤلاء، وأصبح المصلحون بينهم من أشد الناس غربة.
وادّعى كثير منهم (الغَيْرَة)، ولكنه مجرد ادعاء، لأن القول كذبه العمل، فظهرت تلك الأمثلة التي تخدش الحياء، وتُضعف المروءة، وانتشرت انتشار النار في الهشيم.
وتأمّل ذلك الصنف من النسوة اللاتي ظهرن متبرجات بكل ما تعنيه كلمة التبرج، سافرات بكل ما تعنيه كلمة السفور، فكشفن عن الرأس والساقين، أو كشفن عن وجوههن، ووضعن عليهن الزينة، حتى ضاعت معالم الوجه من كثرة الأصباغ، أو وضعن العطور الفوّاحة التي يوجد شذاها من المدى البعيد.
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي يذهبن إلى الخياطين، فيقوم الخياط بالتفصيل على إحداهن، ويأخذ مقاسات جسمها ما علا منه وما نزل، بل ويضع يده على بعض المواضع التي لو مدّ أبوها يده إليها لاستحيَت، بل وتُفَصل عنده بعض الموديلات التي لا تلبسها إلا الساقطات من النساء، اللاتي عُرفن بالانحراف والفساد الصريح.
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي درسن أو عملن بين صفوف الرجال، وتعاملن معهم كما تتعامل إحداهن مع أحد أفراد أسرتها المحارم، وركبن السيارات، وخرجن سافرات، يجُبن الشوارع طولاً وعرضاً كالتائهات، (بل هن حقاً تائهات).
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي ركبن مع السائق، يجوب بهن الشوارع والأسواق والجامعات، وغير ذلك من الأمكنة، بمفردهن، غير محتشمات عنه، بل ويدخل إلى المنزل وكأنه أحد محارم الأسرة، فلا يتحرّجن ولا يستحين منه، بحجة أنه (سائق) أو (ليس برجل) بمفهوم الكثير، بل وتقف إحداهن تتحدث معه بقميص النوم، بل ولعلها خاطبته وهي مضطجعة تنظر للتلفاز..
وكم حدثت من الجرائم والاعتداءات على الأعراض بسبب هذا الاستهتار والجهل (قاتل الله الجهل وموت الحياء).
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي يتسكعن في الشوارع، ويعاكسن الشباب، حتى أصبحن كحاوية القمامة، ما أُلقي فيها شيء إلا احتوته!.
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي يسافرن إلى بلاد الفجور والانحلال وحيدات، سافرات متبرجات بلا رجال، يبحثن عن الرذيلة وموت العفّة.
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي اخترعن طريقة جديدة للتبرج، وهي: (التبرج المعلب)، بحيث تلبس إحداهن (البرقع) الذي تبين من ورائه معالم الوجه والخدين والرقبة، أو أنها توسع فتحة العينين وتزينها بالكحل ومواد التجميل، أو أنها تُظهر شعرها المصبوغ من فوق ذلك البرقع، وتسمي ذلك (ستراً)!! إنما هو ستر مفضوح.
وما النقاب الجديد الذي يوضع على منتصف الأنف، فيستر ما تحت ذلك، ويظهر العينين والجبهة، إلا على شاكلة ذلك البرقع، أو أشد شراً.
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي ينظرن إلى المجلات الخليعة، والأفلام الهابطة، ويستمعن إلى الأغاني الماجنة، بل ويشترين ذلك بأموالهن، فجعلن المال وسيلة للتردي والانحدار، بدلاً من أن يكون وسيلة لصيانة الأعراض وحمايتها.
وتهافتت أمامهن تلك الصرخة المدويّة:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه *** لا بارك الله بعد العرض بالمال
أو ذلك الصنف من النسوة اللاتي يرقصن في الأعراس والحفلات على أنغام الموسيقى الصاخبة، ويلبسن الثياب المثيرة، ويرقصن الرقصات المخِلَّة، بل والأدهى أن يكون ذلك أمام الرجال، وبين ظهرانيهم.
أو.. أو…أو …
ومع كل ما ذُكر فإن ذلك غيض من فيض.
فهل هؤلاء النسوة يعرفن الحياء حقاً؟!
أو هل يظن أولياؤهن أنهم من أهل (الغيرة)؟!. كلا وحاشا.
وللخير أهل يُعرفون بهديهــم *** إذ اجتمعت عند الخُطوب المجامعُ
وللشر أهل يُعرفون بشكلهـم *** تشير إليهم بالفجور الأصـابعُ
فأين هؤلاء النسوة الغافلات عن تلك الأمثلة الرائعة التي سطرها الأولون؟!
وأين أولئك الذين يدّعون (الغيرة) عن اتّباع آثار من سلفهم؟
أين هم من غيرة النبي النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
أين هم من غيرة الصحابة رضي الله عنهم؟
أين هم من غيرة المتمسكين بآثار السلف؟
بل أين هم من غيرة (المعتصم)، الذي استنجدت به امرأة من المسلمين، عندما اعتدى عليها أحد كلاب الروم، فصرخت: "وامعتصماه! "، فاضطرمت نار الغيرة في خافقه، وأخذته الحمية، وضاق بالخبر ذرعاً، ولم يحتمل الصبر حتى أرسل جيشاً عرمرماً، فدكّ تلك البلدة، استجابة لصرخة تلك المرأة المسلمة، وغيرة على عِرضها.
فهذه الاستجابة غيرة على امرأة من نساء المسلمين، قد نِيلَ من كرامتها، فكيف بمن لا يغار على أهل بيته؟ بل كيف بمن يساعدهم على ذلك؟
أيحق له أن يدّعي الغيرة بعد ذلك؟!.
{سبحانك هذا بهتان عظيم}.