حكم قول من ادعى الفقر ، وهو يعرف بالغنى إذا سأل الزكاة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه، ومن والاه
أما بعد:
الزكاة حق الله في المال ، فيجب إخراجها إذا توفرت فيها شروطها ، وإذا أخرجها الإنسان فلا بدّ أن تكون لأناس مخصوصين ، ولا بدَّ له من الحذر أن يضعها في غير محلّها حتى تبرأ ذمته أمام الله ـ عز وجل ـ ، فإنَّ الزكاة لا تبرأ بها الذمة، ولا تكون مقبولة عند الله إلاَّ إذا وضعها الإنسان في مواضعها التي فرض الله أن توضع فيها ممن ذكرهم في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[1]
ففي هذه الآية الحصر بـ"إنما"، وكأنما العبارة: (ما الصدقات إلاَّ للفقراء و...) [2]
فقد حصر الله سبحانه الصدقات في هذه الأصناف الثمانية، فلا تجزئ في غيرها. وكثير من الناس يدَّعي أنه من أهل الزكاة ، وأكثر ما يدعيه الناس في زماننا هذا هو الفقر .
هذا مما دعاني لأن أطرح في هذا البحث مسألة مهمة في الزكاة ومصرفها ، ألا وهي حكم من ادعى الفقر وهو يعرف بالغنى .
أهمية البحث:
تكمن أهمية هذا البحث للحاجة الماسة ـ وخاصة في عصر ضاعت فيه الأمانات ، وضعف الوازع الديني ـ فجمعت المسألة ، وما فيها من خلاف في المذاهب الأربعة مع أدلتهم ، ناقشت أقوالهم وسردت اعتراضاتهم والله الموفق.
خطة البحث:
بحثنا هذا ليس فيه سوى فصل واحد ، وفيه:
-المقدمة وفيها:
التمهيد
أهمية البحث
- تعريف المصطلحات ، وفيه:
تعريف الادعاء
تعريف الفقر
تعريف الغنى
تعريف البينة
- تحرير محل النزاع
- ذكر الأقوال، وفيه:
القول الأول
القول الثاني
- سبب الخلاف
- ذكر الأدلة ، وفيه :
أدلة القول الأول, ومناقشته
أدلة القول الثاني, ومناقشته, والأجوبة
- الترجيح
تعريف المصطلحات:
الادعاء :
أن تزعمحقّاً لك, أو لغيرك[3].
الفقر:
الفاء والقاف والراء أَصلٌ صحيح, يدلُّ على انفراجٍ في شيء ، من عضوٍ أو غير ذلك[4].
الفقير لغةً:
المكسور فَقَارِ الظَّهر[5]. وقال أهل اللُّغة: منه اشتُقَّ اسمُ الفقير ، وكأنه مكسورُ فَقَار الظَّهر، من ذِلَّتِهِ ومَسْكَنتِه[6]، والفقير: المحتاج[7]
واصطلاحاً:
اختلف الفقهاء في تعريف الفقير على أقوال، نذكر أهمها:
القول الأول:
مَن له شيئ دون نصاب الزكاة ، أو له قدر نصاب غير نام, مستغرق في الحاجة، وهو قول عند الحنفية[8]
القول الثاني:
الْفَقِير : مَنْ لَهُ بُلْغَةٌ لَا تَكْفِيهِ لِعَيْشِ عَامِه ِ، وهو قول المالكية[9]
القول الثالث:
هو الذي لا شيئ له ، وهو قول الشافعية.[10]
القول الرابع:
مَن لا يقدر على كسب ما يقع موقعاً من كفايته ، ولا له من الأجرة أو من المال الدائم ما يكفيه ، ولا له خمسون درهماً، ولا قيمتها ، وهو قول الحنابلة[11].
الغنى:
الغين والنون والحرف المعتل أصلانِ صحيحان ، أحدُهما يدلُّ على الكِفاية ، والآخر صوت[12].
والغني لغة :
المكتفي المستغني عن الغير[13].
واصطلاحاً:
فيه أقوال:
القول الأول:
إنه مَن ملك النصاب، أو مَن يملك قدر نصاب فارغ عن حاجته الأصلية ، من أي مال كان ، وهو قول الحنفية[14].
القول الثاني:
لا حدّ له ، وإنما هو راجع إلى الاجتهاد، وهو قول المالكية[15].
القول الثالث:
مَن كان ذا كسب يغني به نفسه وعياله ـ إن كان له عيال ـ ، أو كان له قدر كفايته في كلّ يوم من أجر عقار، أو تجارة ، أو نحو ذلك، وهو قول الشافعية[16].
القول الرابع:
هو مَن يملك خمسين درهما أو قيمتها ، وهو قول الحنابلة[17].
البينة:
الدليل والحجة والبرهان ، أو الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة[18].
تحرير محل النزاع:
اتفقوا على أنَّ مَن ادعى الفقر وهو يعرف بالغنى ، فإنه لا يقبل قوله ، ولا يصدَّق ، بل يكلَّف ببينة لبيان فقره، أو ذهاب ماله[19]. واختلفوا في البينة على قولين :
القول الأول :
إنَّ البينة شاهدان من الرجال، أو رجل وامرأتان، أو استفاضة بين الناس على فقره، وهو قول الحنفية[20]، والمالكية[21] ، والمذهب المعتمد عند الشافعية[22]، ورواية عند الحنابلة[23].
القول الثاني:
إنَّ البينة ثلاثة شهود ، وهو وجه عند الشافعية[24]، والمذهب المعتمد عند الحنابلة[25]
ذكر الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بالقياس ؛ إذ قاسوها على سائر الشهادات سوى الزنى ؛إذ عدد شهودها اثنين [26]
وجه الاستدلال:
أنَّ قول الشاهدين في الفقر يقبل بالنسبة لحقوق الآدميين المبنية على الشح والضيق، ففي حق الله أولى؛ لأنه مبني على المسامحة والمغفرة[27].
الرد على الاستدلال:
أنَّ في ذلك قياس مع الفارق ؛ فإنَّ الشاهدين في الجناية وغيرها يشهدان في أمر ظاهر عياناً ، فهما ـ مثلاًـ رأياه يقتل بآلة حادة ، أو يخنق، أو كان مديناً ، وشهدا على أمر ظاهر واضح ، أما من أصابته الفاقة فهو في بيته ، وهو في أمره وشأنه ، فلا نعلم حقيقة مدخله وحقيقة معيشته، ولم يأبه بحاله وغناه قبل طلبه، ولهذا يشترط في هؤلاء الشهود هذا العدد[28].
أدلة القول الثاني: حديث قبيصة :
"يا قبيصة إنَّ المسألة لا تحلّ إلاَّ لأحد ثلاثة : رجل تحمَّل حمالة فتحل له المسألة حتى)):[29] يصيبها ، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة ، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ، ثم يمسك فما سواهنَّ من المسألة ، فسحت يأكلها صاحبها سحتا))[30]
وجه الاستدلال:
أنَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خص بالثلاثة، فلا يجزئ بأقلَّ من ذلك، وعملوا بظاهر هذا النص[31].
الرد على الاستدلال:
الرد الأول:
أنَّ المراد في الحديث التغليظ ، وليس التحديد بالعدد.
الرد الثاني:
أنَّ الخبر هذا في حلّ مسألة، فيقتصر عليه.
الرد الثالث:
أنَّ الخبر محمول على الاستحباب.[32]
الأجوبة:
إنَّ في تخصيص العدد بالمسألة نفسها ، أو قصرها على الاستحباب ، أو التغليظ ، شيء لا دليل عليه ، ولا داعي له ؛ فهو أمرٌ من الشارع ، والأمر يدلّ على الوجوب إذا لم يكن هناك قرينة تصرفه إلى الندب ، وإنَّ هذا يشبه ما جعله الله سبحانه من إيجاب أربعة شهود على الزنى ، فالشارع جعل ذلك لحكمة ، وكذا في المسألة هنا[33] .
الترجيح:
ولعلَّ الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الثاني ؛ لورود النص في ذلك ، وقد تقدمت مناقشة أدلة القول الأول ، وقد أجيب عليها .
والخلق عبيد الله يتعبَّدهم الله بما شاء ، فتعبّدهم بأن جعل الاثنين حجة فيما جعلهما فيه ، ثم جعل الحجة في غير ذلك ، وهو الزنى بأكثر من عددهما ، وكان مثل ذلك في المسألة التي أباح المسألة عندها تعبدهم فيه على لسان رسول الله عليه السلام بثلاثة ، وخالف بين ذلك وبين ما سواه مما جعل الاثنين فيه حجة ، فوجب التقيد بالعدد الوارد بالنص .والله أعلم وأحكم.
[1]التوبة 60
[2]انظر أقوال المفسرين في الآية تفسير الطبري14/305وتفسير ابن كثير 4/165وتفسير البغوي4/64
[3]انظر معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/228، والقاموس المحيط للفيروز آبادي صــــ1655ـــــــ
[4]انظر معجم مقاييس اللغة 4/355
[5]القاموس المحيط صـــ588ـــــــ
[6]القاموس المحيط المرجع نفسه، ومختار الصحاح صـــ517ــــــ
[7]التعريفات صـــ216ـــــ
[8]انظر فتح القدير 2/265، و تبيين الحقائق 2/111
[9]انظر الخرشي على مختصر خليل 1/212 ، والدسوقي لابن عرفة الدسوقي 2/100
[10]انظر الأم للشافغي 4/264، والمجموع للنووي 6/190
[11]انظر المغني لابن قدامة 9 / 306 ، و الإنصاف للمرداوي 2 / 217
[12]انظر معجم مقاييس اللغة 4/319-320 ، والقاموس المحيط صـــ1700ـــ
[13]انظر معجم مقاييس اللغة 4/319-320
[14]انظر تحفة الفقهاء للسمرقندي 1/301 ، وتبيين الحقائق 2/123
[15]انظر الذخيرة للقرافي 3/,149 والخرشي على مختصر خليل 1 / 212 ، وبداية المجتهد ,لابن رشد القرطبي صــ231ــــ
[16]انظرالمجموع للنووي 6/190
[17] انظرالمغني 9 / 309 ، والإنصاف 3/221
[18]انظر والتعاريف للمناوي صـــ149أنيس الفقهاء للقونوي صـــ237 ،
[19]انظر المجموع 6/195 ، والإنصاف 5/229
[20] انظر تحفة الفقهاء 1 / والمبسوط 2/149
[21]انظر الخرشي على مختصر خليل 1/ 213 ، والدسوقي2/100
[22]انظر المجموع 6/ 189 ، والحاوي الكبير 10/560
[23] انظر المغني9 / 311 ، والإنصاف 3 / 245
[24]انظر المجموع 6/ 189 ، والحاوي الكبير 10/560
[25]انظر المغني9 / 311 ، والإنصاف 3 / 245
[26]انظر الخرشي على مختصر خليل 1/ 213 والحاوي الكبير10/560
[27]انظرالحاوي الكبير 10/560
[28] بيان مشكل الآثار للطحاوي 1/435
[29]قبيصة بن المخارق بن عبد الله بن شداد بن أبى ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالى البصرى له صحبة انظر أسد الغابة 4 /77 ، والتقريب 2 / 123
[30]أخرجه مسلم (2/722 رقم 1044) ، وأبو داود (2/120 ، رقم 1640) ، والنسائى (5/89 ، رقم 2580)
[31] المغني والإنصاف المرجع نفسه
[32]الحاوي والمغني والإنصاف المرجع نفسه
[33]المغني المرجع نفسه ، وبيان مشكل الآثار للطحاوي 1 / 435