بسم الله الرحمن الرحيم
الكتابة ألهمك الله معرفة فضلها، ولا حرمك نفع صداقة أهلها، أشرف الوظائف والمناصب،وأرفع المنازل والمراتب، وأفلح صناعة، وأربح بضاعة. قطب دائرة الآداب، وصدر أسرار الألباب، ورسول صادق، ولسان بالحق ناطق، وسيف تحد بحده المعارف، وميزان يميز التالد من الطارف، تلحق خبر الحاضر بالغائب، وإليها تنتهي الآمال والرغائب. بها تتم النعمة، وتفصل شذور الحكمة. تبرز إبريز البلاغة، وتصوغ لجين الكلام أحسن صياغة. لطف حواشي رقاعها محقق، وجدولها المسلسل على الريحان يتدفق. قد تحلت بصحة الوضع والتركيب، وحلت بما حكت من أعضاء الحبيب: فاللام والألف كعذاره وقده. والجيم كصدغه المعقرب على خده. والصاد والنون كعينه وحاجبه. والميم منه النائي عن رائد ورده بجانبه:
لا تعد عن فن الكتابة، إنها ... مغنى الغنى ومفاتح الأرزاق
واخش اليراعة وارجها فهي التي ... عرفت بنفث السم والدرياق
والكتاب عماد الملك وأركانه، وعيونه المبصرة وأعوانه، وبهاء الدول ونظامها، ورؤوس الرياسة وقوامها. ملابسهم فاخرة، وشمائلهم لطيفة، ونفوسهم شريفة. مدار الحل والعقد عليهم، ومرجع التصرف والتدبير إليهم. بهم تحلى العواطل، وتبتسم ثغور المعاقل. مجالسهم بالفضائل معمورة، وبندائهم أندية القصاد مغمورة. يهدون إلى الأسماع أنواع البديع، وينزهون الأحداق في حدائق التوشيح والتوشيع. هم أهل البراعة واللسن، وشيمتهم لف القبيح ونشر الحسن. يميلون إلى القول بموجب المدح، ولا يملون من مراجعة الراغبين في المنح. دأبهم استخدام الناس بالمعروف، وعدم التورية عن العاني والملهوف. ويجلون الكبير ويبجلون الصغير، ولا يخلون بمراعاة النظير. لهم إلى الخير رجوع والتفات. وبالجملة فقد حازوا جميع جميا الصفات.
كتبت، فلولا أن هذا محلل ... وذاك حرام، قست خطك بالسحر فإن كان زهراً فهو صنع سحابة ... وإن كان دراً فهو من لجة البحر
بأيديهم أقلام تختلس بلطفها الأحلام. صافية الجواهر، زاهية الأزهار، لينة الأعطاف، ناعمة الأطراف. تبكي وهي مبتسمة، وتسكت وهي بما يطرب السمع متكلمة. قد اعتدلت قدودها، وأشرقت في سماء البراعة سعودها. أسنتها مرهفة، ومطارفها مفوقة. تجتهد في خدمة الباري، وتبدي من دررها ما يفضح الدراري. تميس في وشي أبرادها، وتشرح الصدور بعذوبة إبرادها. نشأت على شطوط الأنهار و تعلمت اللحن من إعراب الأطيار. طويلة الأنابيب، تسلب القلوب بحسن الأساليب. تدهش الناظر وتخجل العامل، ولا ترضى بامتطاء غير الأنامل. الشجاعة كامنة في مهجتها، والفصاحة جارية على لهجتها. تبهر بالنضارة نواظر النهار، وتطرز بالليل أردية النهار. إن قالت لم تترك مقالاً لقائل، وإن صالت رجعت السيوف مستترة بأذيال الحمائل. سجدت للطرس، فرفعت إلى أعلى الرتب، وحلت وشببت فلا غرو إذا سميت بالقصب.
قلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد
وهبت له الآجام حين نشا بها ... كرم السيول وصولة الآساد
يكرع من دواة حالكة الحياض، مشرقة الأدواح والرياض، جنية الأثمار مطعمة الأشجار. ريقها رائق، ونيل نيلها دافق. تكشف غطاءها عن كل معنى أنيق، وتفتح فاها بكسر العدو وجبر الصديق. شرفها ليس فيه نزاع، وسقطها من أنفس المتاع. تحنو على أولادها طول المدى، ثم تقط رؤوسهن - ولا ذنب لهن - بحد المدى. سمت إلى المعالي بنفسها، وأعارت المسك السحيق بنقسها. ترشد بنور جمالها، وتنشد بلسان حالها:
إن السعادة، حيث كنت، مقيمة ... والبحر أخبار الندى عني روى
كم من عليل مقاصد أبرأته ... فأنا الدواة حقيقة وأنا الدوا
لله أطراسها التي أضاءت بمدادها، وأشبهت عيون العين ببياضها وسوادها، وانطوت المحاسن تحت رق منشورها، وصدحت حمائم البلاغة على أغصان سطورها. صحائف تنوب عن الصفائح، وقراطيس تزف إلى الأسماع عرائس القرائح. ألبسها الحبر أثواباً من الحير، ودبجها صواب الفكر لا صوب المطر. كم حازت من در منظوم، وعلم لفظ بوشي المعاني مرقوم. وفقر تفتقر إليها أجياد الحسان، وغرر كلم تذهب العقول بسحرها وإن من البيان:
كتاب في سرائره سرور ... مناجيه من الأحزان ناجي
كراح في زجاج بل كروح ... سرت في جسم معتدل المزاج
فاجتهد أعزك الله في طلابها، واحرص على الدخول في زمرة أربابها، وتمسك بأذيال بنيها، تجد جواداً أو نبيلاً أو نبيهاً. وحسبهم شرفاً أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين، ووصف الكتبة بالحفظ والكرم فقال: " وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين " .
من كتاب نسيم الصبا لابن حبيب الحلبي