يأتي الإعتراض - إضافة إلى أنه مؤكد لمفهوم الكلام الذي وقع فيه ، ومقرر له في نفوس السامعين - لأغراض بلاغية كثيرة منها :
1- التنزيه :
كقوله سبحانه : ( ويجعلون لله البنات- سبحانه- ولهم ما يشتهون ) (109).
فقوله : ( سبحانه ) : معترضة ، للمبادرة إلى تنزيه الله عن اتخاذ البنات ،
و – سبحانه - : واقعة موقع المصدر الذي هو التنزيه ، فكأنه قيل : أنزهه
تنزيها ، عما يقوله أولئك الخراصون.
( وهم
: خزاعة وكنانة ، كانوا يقولون : الملائكة بنات الله تعالى ، وكأنهم
لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها. و ( سبحانه ) : تنزيه وتقديس له تعالى شأنه
عن مضمون قولهم ذلك ، أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة ،
وهو في المعنى الأول حقيقة ، وفي الثاني مجاز ) (110) ووقوع التنزيه قبل
تمام الكلام ، فيه إشارة إلى شناعة هذا الكلام وفظاعته.
3- للتسديد :
كقوله سبحانه : ( وإذا بدلناآية مكان آية – والله أعلم بما ينزل – قالوا
إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ) (111):فقوله تعالى - والله أعلم بما
ينزل - : ( جملة معترضة بين الشرط وجوابه ، للمسارعة إلى توبيخ المشركين ،
وتجهيلهم ) (112).
وأفادت
جملة الإعتراض : أن تبديل آية مكان آية ، كان لحكمةيعلمها الله ، فالله
عليم بما ينزل من الآيات ، وما سيبدل منها ، ولو حذفت جملة الإعتراض ، لم
يكن في الآية إشارة إلى أن تبديل الآيات يتم بعلم الله ، ومن هنا كانت
جملة الإعتراض مسددة للمعنى تسديدا تاما. قال الآلوسي : ( والجملة إما
معترضة لتوبيخ الكفرة ، والتنبيه على فساد رأيهم ، وفي الالتفات إلى
الغيبة ، مع الاسناد إلى الاسم الجليل ، ما لا يخفى من تربية المهابة ،
وتحقيق معنى الاعتراض. أو حالية ، كما قال أبو البقاء وغيره ) (113)
3- للتنبيه على أمر هام :
نحو قوله تعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله
فاستغفروا لذنوبهم – ومن يغفر الذنوب إلا الله – ولم يصروا على ما فعلوا
وهم يعلمون ) (114)
أفاد
الإعتراض : الحث على الإستغفار ، والتنبيه على أن الله سبحانه هو الغفور
لعباده ، فالمغفرة لا تكون إلا منه سبحانه ، وفي ذلك ترغيب للمذنبين
وتنشيط لهم أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل ، غير يائسين من عفوه تعالى
، ورحمته الواسعة. (115).
وورود هذا التركيب – ومن يغفر الذنوب إلا الله – على هذا النحو ، يدل على أمور عدة منها :
أولا
:- دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع ،
وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار ، فلم يقل : (وما يغفر
الذنوب إلا الله )، تقرير لذلك المعنى ، وتأكيد له ، كأنه قيل : هل تعرفون
أحدا يقدر على غفران الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ، وسالفها ، وغابرها ،
غير من وسعت رحمته كل شيء..؟
ثانيا
: - الإتيان بالجمع المحلى باللام في قوله : ( الذنوب ) ، إعلام بأن
التائب إذا تقدم بالاستغفار ، يتلقى بغفران ذنوبه كلها ، فيصير كمن لا ذنب
له.
ثالثا
: - دلالة النفي بالحصر والإثبات ، على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه
وفضله ، وذلك أن من وسعت رحمته كل شيئ ، لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا.
رابعا
: - في إبداء سعة الرحمة ، واستعجال المغفرة ، بشارة عظيمة ، وتطييبا
للنفوس ، فإذا نظر العبد إلى هذه العناية الشديدة ، والإهتمام العظيم في
شأن التوبة ، يتحرك نشاطه ، ويهتز عطفه ، فلا يتقاعس عنها. (116)
4- لدفع الإيهام :
وذلك كما في قوله تعالى : ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله
، والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ). (117)
عد
المفسرون قوله تعالى : ( والله يعلم إنك لرسوله ) جملة معترضة ، مقررة
لمضمون ما قبلها من كونه صلى الله عليه وسلم – رسول من عند الله تعالى حقا.
وفائدة الاعتراض : أنه لو اتصل التكذيب بقولهم ، لربما توهم أن قولهم في حد ذاته كذب ، فأتبع بالاعتراض لدفع هذا الإيهام. (118)
قال
في حاشية زادة : ( فإن قلت : أي فائدة في أنه جيء بقوله : ( والله يعلم
إنك لرسوله ) جملة معترضة ، بين قوله : ( نشهد إنك لرسول الله ) وبين قوله
: ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) ؟ قلنا : جيء بها لفائدة ، وهي :
إنه لو قيل : قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يشهد إنهم لكاذبون ، لكان
يوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسط بينهما قوله تعالى ( والله يعلم إنك لرسوله
) ليزول هذا الوهم. ) (119)
5- للتعظيم : - وذلك كما في قوله تعالى : ( فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. إنه لقرآن كريم.في كتاب مكنون ) (120)
قال يحيى بن حمزة العلوي : ( ففي هذه الآية إعتراضان :
أحدهما
: بجملة اسمية إبتدائية ، وهو قوله : (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) فأتى به
إعتراضا بين القسم وجوابه ، وإنماأتى به على قصد المبالغة للمقسم به ،
واهتماما بذكر حاله قبل جواب القسم ، وفيه الإعظام له ، والتفخيم لشأنه ،
وذلك يكون أوقع في النفوس ، وأدخل في البلاغة.
وثانيهما
: بجملة فعلية بين الصفة والموصوف ، وهو قوله ( لو تعلمون ) فإنه وسطه بين
الصفة وموصوفها تفخيما لشأنه ، وتعظيما لأمره. كأنه قال : وإنه لقسم لو
تعلمون حاله أو تحققتم أمره ، لعرفتم عظمة وفخامة شأنه ، فهذان الإعتراضان
قد اختصا بمزيد البلاغة ، وموقع الفخامة مبلغا لا ينال ) (121).
6 - للتوبيخ :
- ومما جاء من الإعتراض مفيدا للتوبيخ قوله تعالى : ( فلولا إذا بلغت
الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون - ونحن أقرب إليه منكم - ولكن لا تبصرون ).
(122)
ذكر
المفسرون أن قوله – ونحن أقرب إليه منكم – جملة معترضة بين جملة ( وأنتم
حينئذ تنظرون) وجملة ( ولكن لا تبصرون ) ، أفادت أن ثمة حضورا أقرب من
حضورهم عند المحتضر ، وأكدت ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل
على سوء اعتقادهم بربهم - سبحانه –منهم ، والمعنى : إذا كنتم أيها
الجاحدون المكذبون لم تعتبروا ولم تتعظوا بكل ما سقناه لكم من ترغيب
وترهيب ، على لسان رسولنا محمد – صلى الله عليه وسلم – قهلا اعتبرتم
واتعظتم وآمنتم بوحدانيتنا وقدرتنا ، حين ترون أعز وأحب إنسان إليكم ، وقد
بلغت روحه حلقومه ، أوشكت على أن تفارق جسده ، وأنتم أيها المحيطون بهذا
المحتضر العزيز عليكم ، حين وصل الأمر به إلى تلك الحالة ، التي تنذر بقرب
نهايته ، تنظرون إلى ما يقاسيه من غمرات الموت ، وتبصرون ما فيه من شدة
وكرب ، وتحرصون كل الحرص على إنجائه مما حل به ، ولكن حرصكم يذهب أدراج
الرياح ، ونحن أقرب إليه منكم ، ولكنكم لا تدركون ذلك ، بقدرتنا النافذة ،
وحكمتنا البالغة. (123)
7 - لتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر يتعلق بهما :
كما
في قوله تعالى : ( ووصينا الإنسان بوالديه – حملته أمه وهنا على وهن
وفصاله في عامين – أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ) (124). فقوله سبحانه
: ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ) ، إعتراض بين قوله ( ووصينا
الإنسان بوالديه ) وبين الموصى به ( أن اشكر لي ولوالديك ) ، وفائدة هذا
الإعتراض : هو توجيه نظر الأبناء إلى الإهتمام بالأم أكثر من الإهتمام
بالأب لضعفها، فذكر ما تكابده الأم ، وتعانيه من المشاق والمتاعب ، في
حمله وفصاله ، هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا. (125)
8 - للتعجيز والتحدي :
كقوله تعالى : ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا -
فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) (126)
فقوله
تعالى ، ( ولن تفعلوا ) جملة معترضة بين الشرط وهو قوله : ( فإن لم تفعلوا
) وبين جوابه ، وهو قوله : ( فاتقوا النار ) ، لا محل لها من الإعراب ،
جيء بها لتأكيد عجزهم عن معارضته ، وأن ذلك غير متاح لهم ، ولو تظافرت
هممهم عليه.
كما
نبه بالاعتراض على عجز المخاطبين في المستقبل ، عن الإتيان بسورة من مثل
سور القرآن ، حتى لا يتوهم المخاطبون أنهم قادرون على ذلك في المستقبل ،
وإن لم يكونوا قادرين عليه في الماضي ، أو الحاضر.
قال الدكتور تمام حسان : إن قوله : - ولن تفعلوا - : ( اعتراض للتعجيز والتحدي ، بواسطة تأبيد النفي مستقبلا ) (127)
وقال
الآلوسي : ( والجملة _ ولن تفعلوا - اعتراض بين جزأي الشرطية ، مقرر
لمضمون مقدمها ، ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها ، وهذه معجزة باهرة ، حيثأخبر
بالغيب الخاص علمه به سبحانه ، وقد وقع الأمر كذلك ، كيف لا ، ولو عارضوه
بشيء يدانيه ، لتناقلته الرواة ، لتوفر الدواعي. وما أتى به مسيلمة لم
يقصد به المعارضة ، وإنما ادعاه وحيا. ) (128)
والمعنى
: إن ارتبتم أيها المشركون في شأن القرآن الذي أنزلنا على عبدنا محمد –
صلى الله عليه وسلم - فأتوا بسورة من مثله في سمو الرتبة ، وعلو الطبقة ،
( وادعوا آلهتكم ، وبلغاءكم ، وجميع البشر ليعينوكم ، أو ليشهدوا لكم أنكم
أتيتم بما يماثله ، في حكمة معانيه ،وحسن بيانه. وفي هذه الآية الكريمة
إثارة لحماستهم ، إذ عرض بعدم صدقهم ، فتتوفر دواعيهم على المعارضة التي
زعموا أنهم أهل لها. ) (129)
هذه
نماذج مما ذكره البيانيون ، والمفسرون ، من أغراض بلاغية للجملة المعترضة
، وليس غرضي الإستقصاء ، فذلك أمر بعيد المنال ، لا يتسع له هذا البحث ،
وأكتفي من القلادة ما يحيط بالعنق.
من كتاب :
الجملة المعترضة في القرآن .. مفهومها وأغراضها البلاغية -
د. سامي عطا حسن